فصل: سورة السجدة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية، قال ابن عباس‏:‏ إلا ثلاث آيات، أولهنّ‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض‏}‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلا آيتين، أوّلهما‏:‏ ‏{‏ولو أن‏}‏ إلى آخر الآيتين، وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاثة‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض‏}‏ إلى آخرهنّ، لما نزل ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ وقول اليهود‏:‏ إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا، فقال الرسول‏:‏ «التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله»، فنزل‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏‏.‏ ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ فأشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏الم، تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏؛ وكان في آخر تلك‏:‏ ‏{‏ولئن جئتهم بآية‏}‏ وهنا‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليه آياتنا ولىّ مستكبراً‏}‏، وتلك إشارة إلى البعيد، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه‏.‏

و ‏{‏آيات الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن واللوح المحفوط‏.‏ ووصف الكتاب بالحكيم، إما لتضمنه للحكمة، قيل‏:‏ أو فعيل بمعنى المحكم، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل، ومنه عقدت العسل فهو عقيد، أي معقد، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الحكيم‏:‏ ذو الحكمة؛ أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏هدى ورحمة‏}‏، بالنصب على الحال من الآيات، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، قاله الزمخشري وغيره، ويحتاج إلى نظر‏.‏ وقرأ حمزة، والأعمش، والزعفراني، وطلحة، وقنبل، من طريق أبي الفضل الواسطي‏:‏ بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز ذلك‏.‏ ‏{‏للمحسنين‏}‏‏:‏ الذين يعملون الحسنات، وهي التي ذكرها، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة، ونظيره قول أوس‏:‏

الألمعي الذي يظن بك ال *** ظن كأن قد رأى وقد سمعا

حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد، وخص المحسنون، لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ الذين يعملون بالحسن من الأعمال، وخص منهم القائمون بهذه الثلاثة، لفضل الاعتداد بها‏.‏ ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه» وقيل‏:‏ المحسنون‏:‏ المؤمنون‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ هم السعداء‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ هم المنجحون‏.‏ وقيل‏:‏ الناجون، وكرر الإشارة إليهم تنبيهاً على عظم قدرهم‏.‏ ولما ذكر من صفات القرآن الحكمه، وأنه هدى ورحمة، وأن متبعه فائز، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشترياً له وباذلاً فيه رأس عقله، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله‏.‏

ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، كان يتجر إلى فارس، ويشتري كتب الأعاجم، فيحدث قريشاً بحديث رستم واسفندار ويقول‏:‏ أنا أحسن حديثاً‏.‏ وقيل‏:‏ في ابن خطل، اشترى جارية تغني بالسب، وبهذا فسر ‏{‏لهو الحديث‏}‏‏:‏ المعازف والغناء‏.‏ وفي الحديث من رواية أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «شراء المغنيات وبيعهم حرام»، وقرأ هذه الآية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏لهو الحديث‏}‏‏:‏ الشرك‏.‏ وقال مجاهد، وابن جريج‏:‏ الطبل، وهذا ضرب من آلة الغناء‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الترهات‏.‏ وقيل‏:‏ السحر‏.‏ وقيل‏:‏ ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ما شغلك عن عبادة الله، وذكره من السحر والأضاحيك والخرافات والغناء‏.‏ وقال سهل‏:‏ الجدال في الدين والخوض في الباطل، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء، وصرف عقله بكليته إليه‏.‏ فإن أريد به ما يقع عليه الشراء، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف، أي من يشتري ذات لهو الحديث‏.‏ وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من، لأن اللهو قد يكون من حديث، فهو كباب ساج، والمراد بالحديث‏:‏ الحديث المنكر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قال‏:‏ ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه‏.‏ انتهى‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏ليضل‏}‏ بفتح الياء، وباقي السبعة‏:‏ بضمها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ القراءة بالرفع بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح‏؟‏ قلت‏:‏ معنيان، أحدهما‏:‏ ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدق عنه، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه‏.‏ والثاني‏:‏ أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة، فدل بالرديف على المردوف‏.‏ فإن قلت‏:‏ قوله بغير علم ما معناه‏؟‏ قلت‏:‏ لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال‏:‏ يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‏}‏ أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏سبيل الله‏}‏‏:‏ الإسلام أو القرآن، قولان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافاً إلى الكفر، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ليضل‏}‏ إلى آخره‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص‏:‏ ‏{‏ويتخذها‏}‏، بالنصب عطفاً على ‏{‏ليضل‏}‏، تشريكاً في الصلة؛ وباقي السبعة‏:‏ بالرفع، عطفاً على ‏{‏يشتري‏}‏، تشريكاً في الصلة‏.‏ والظاهر عود ضمير ‏{‏ويتخذها‏}‏ على السبيل، كقوله‏:‏ ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يعود على ‏{‏آيات الكتاب‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزواً‏}‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يعود على الأحاديث، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث‏:‏ ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم، والأمر بالدوام عليه، وتفسير صفة الرسول، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم، ويؤيده ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏}‏‏:‏ أي دينه‏.‏ انتهى، وفيه بعض حذف وتلخيص‏.‏

‏{‏وإذا تتلى عليه‏}‏‏:‏ بدأ أولاً بالحمل على اللفظ، فأفرد في قوله‏:‏ ‏{‏من يشتري‏}‏، ‏{‏وليضل‏}‏، ‏{‏ويتخذها‏}‏، ثم جمع على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم‏}‏، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى‏}‏ إلى آخره‏.‏ ومن في‏:‏ ‏{‏من يشتري‏}‏ موصولة، ونظيره في من الشرطية قوله‏:‏ ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ فما بعده أفرد ثم قال‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏، فجمع ثم قال‏:‏ ‏{‏قد أحسن الله له رزقاً‏}‏ فأفرد، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، غير هاتين الآيتين‏.‏ والنحويون يذكرون ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ الآية فقط، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات‏.‏ وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار، ثم عدم الالتفات إلى سماعها، كأنه غافل عنها، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمماً يصده عن السماع‏.‏ و‏{‏كأن لم يسمعها‏}‏‏:‏ حال من الضمير في ‏{‏مستكبراً‏}‏، أي مشبهاً حال من لم يسمعها، لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف‏.‏ و‏{‏كأن في أذنيه وقراً‏}‏‏:‏ حال من لم يسمعها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكونا استئنافين‏.‏ انتهى، يعني الجملتين التشبيهيتين‏.‏

ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ خالدون، بالواو؛ والجمهور‏:‏ بالياء‏.‏ وانتصب ‏{‏وعد الله‏}‏ على أنه مصدر مؤكد لنفسه، و‏{‏حقاً‏}‏ على المصدر المؤكد لغيره، لأن قوله‏:‏ ‏{‏لهم جنات النعيم‏}‏، والعامل فيها متغاير، فوعد الله منصوب، أي يوعد الله وعده، وحقاً منصوب بأحق ذلك حقاً‏.‏ ‏{‏خلق السموات‏}‏ إلى ‏{‏فأنبتنا‏}‏، تقدم الكلام على ذلك‏.‏ ومعنى ‏{‏كريم‏}‏‏:‏ مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيساً مستحسناً من جهة، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه، فيعم جميع الأزواج، وهو الأنواع‏.‏ ‏{‏هذا خلق الله‏}‏‏:‏ إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته‏.‏ والخلق بمعنى المخلوق، كقولهم‏:‏ درهم ضرب الأمير، أي مضروبه‏.‏

ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده‏.‏ وأما خلقته آلهتم لما ذكر مخلوقاته، فكيف عبدوها من دونه‏؟‏ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي، وتكون مفعولاً ثانياً لأروني‏.‏ واستعمال ماذا كلها موصولاً قليل، وقد ذكره سيبويه‏.‏ ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهو خبر عن ما، والجملة في موضع نصب بأروني، وأروني معلقة عن العمل لفظاً لأجل الاستفهام‏.‏ ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر، لأن من عبد صنماً وترك خالقه جدير بأن يكون في حيرة وتيه لا يقلع عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لقمان‏:‏ اسم علم، فإن كان أعجمياً فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية، وإن كان عربياً فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون، ويكون مشتقاً من اللقم مرتجلاً، إذ لا يعلم له وضع في النكرات‏.‏ صعر‏:‏ مشدد العين، لغة بني تميم‏.‏ قال شاعرهم‏:‏

وكنا إذا الجبار صعر خده *** أقمنا له من ميله فيقوم

فيقوم‏:‏ أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وإنشاد الطبري فيقوما فعلاً ماضياً خطأ، وتصاعر لغة الحجاز، ويقال‏:‏ يصعر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أقمنا له من خده المتصعر *** ويقال‏:‏ أصعر خده‏.‏ قال الفضل‏:‏ هو الميل، وقال اليزيدي‏:‏ هو التشدق في الكلام‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أصل هذا من الصعر، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها، فتلتوي منه أعناقها‏.‏ القلم‏:‏ معروف‏.‏ الختار‏:‏ شديد الغدر، ومنه قولهم‏:‏

إنك لا تمد إلينا شبراً من غدر *** إلا مددنا لك باعاً من ختر

وقال عمرو بن معدي كرب‏:‏

وإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى‏:‏

فالأيلق الفرد من تيماء منزله *** حصن حصين وجار غير ختار

‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد، وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يبني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون، يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير، يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير‏}‏

اختلف في لقمان، أكان حراً أم عبداً‏؟‏ فإذا قلنا‏:‏ كان حراً، فقيل‏:‏ هو ابن باعورا‏.‏ قال وهب‏:‏ ابن أخت أيوب عليه السلام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ابن خالته‏.‏ وقيل‏:‏ كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود، قطع الفتوى، فقيل له‏:‏ لم‏؟‏ فقال‏:‏ ألا أكتفي إذا كفيت‏؟‏ وكان قاضياً في بني إسرائيل‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ كان قاضياً في بني إسرائيل، وزمانه ما بين عيسى ومحمد، عليهما السلام، والأكثرون على أنه لم يكن نبياً‏.‏

وقال عكرمة، والشعبي‏:‏ كان نبياً‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ كان عبداً، اختلف في جنسه، فقال ابن عباس، وابن المسيب، ومجاهد‏:‏ كان نوبياً مشقق الرجلين ذا مشافر‏.‏ وقال الفراء وغيره‏:‏ كان حبشياً مجدوع الأنف ذا مشفر‏.‏ واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال، فقال خالد بن الربيع‏:‏ كان نجاراً، وفي معاني الزجاج‏:‏ كان نجاداً، بالدال‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ كان خياطاً‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان راعياً‏.‏ وقيل‏:‏ كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة‏.‏ وهذا الاضطراب في كونه حراً أو عبداً، وفي جنسه، وفيما كان يعانيه، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك، ولا ينقل‏.‏ لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشواً وتكثيراً، والصواب تركه‏.‏

وحكمة لقمان مأثورة كثيرة، منها‏:‏ قيل له‏:‏ أي الناس شر‏؟‏ قال‏:‏ الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً‏.‏ وقال له داود، عليه السلام، يوماً‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ قال‏:‏ أصبحت في يد غيري، فتفكر داود فيه، فصعق صعقة‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف‏.‏ و‏{‏الحكمة‏}‏‏:‏ المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به، ويتناقله الناس لذلك‏.‏ ‏{‏أن اشكر‏}‏، قال الزمخشري‏:‏ أن هي المفسرة، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، أو عبادة الله والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة‏}‏ لأن يشكر الله، فجعلها مصدرية، لا تفسيرية‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ كتبت إليه بأن قم‏.‏ ‏{‏فإنما يشكر لنفسه‏}‏‏:‏ أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين، إذ هو تعالى غني عن الشكر، فشكر الشاكر لا ينفعه، وكفر من كفر لا يضره‏.‏ و‏{‏حميد‏}‏‏:‏ مستحق الحمد لذاته وصفاته‏.‏

‏{‏وإذ قال‏}‏‏:‏ أي واذكر إذ، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون التقدير‏:‏ وآتيناه الحكمة، إذ قال، واختصر لدلالة المتقدم عليه‏.‏ وابنه بارّ، أي‏:‏ أو أنعم، أو اشكر، أو شاكر، أقوال‏.‏ ‏{‏وهو يعظه‏}‏‏:‏ جملة حالية‏.‏ قيل‏:‏ كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ من كلام لقمان‏.‏ وقيل‏:‏ هو خبر من الله، منقطع عن كلام لقمان، متصل به في تأكيد المعنى؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان‏.‏ وقرأ البزي‏:‏ ‏{‏يا بني‏}‏، بالسكون، و‏{‏يا بني إنها‏}‏‏:‏ بكسر الياء، و‏{‏يا بني أقم‏}‏‏:‏ بفتحها‏.‏ وقيل‏:‏ بالسكون في الأولى والثانية، والكسر في الوسطى؛ وحفص والمفضل عن عاصم‏:‏ بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا، والاجتزاء بالفتحة عن الألف‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ بالكسر في الثلاثة‏.‏

‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه‏}‏‏:‏ لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه، كان ذلك حثاً على طاعة الله، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين، وبين السبب في ذلك، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه، أخبر الله عنه بذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هو من كلام الله، قاله للقمان، أي قلنا له اشكر‏.‏ وقلنا له‏:‏ ‏{‏ووصينا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص، وعليه جماعة من المفسرين‏.‏ ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية، نبه على السبب الموجب للإيصاء، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات، ثم ذكر الأب، فجعل له مرة الربع من المبرة‏.‏

‏{‏وهناً على وهن‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ شدة بعد شدة، وخلقاً بعد خلق‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ضعفاً بعد ضعف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ جهداً على جهد، يعني‏:‏ ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف النفاس، وانتصب على هذه الأقوال على الحال‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وهناً على وهن‏}‏‏:‏ نطفة ثم علقة، إلى آخر النشأة، فعلى هذا يكون حالاً من الضمير المنصوب في حملته، وهو الولد‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية‏:‏ وهناً على وهن، بفتح الهاء فيهما، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهناً، بفتحها في المصدر قياساً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بسكون الهاء فيهما‏.‏ وقرأوا‏:‏ ‏{‏وفصاله‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والجحدري، ويعقوب‏:‏ وفصله، ومعناه الفطام، أي في تمام عامين، عبر عنه بنهايته، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه‏.‏ و‏{‏أن اشكر‏}‏ في موضع نصب، على قول الزجاج‏.‏ وقال النحاس‏:‏ الأجود أن تكون مفسرة‏.‏ ‏{‏لي‏}‏‏:‏ أي على نعمة الإيمان‏.‏ ‏{‏ولوالديك‏}‏‏:‏ على نعمة التربية ‏{‏إليّ المصير‏}‏‏:‏ توعد أثناء الوصية‏.‏ ‏{‏وإن جاهداك‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏فلا تطعهما‏}‏‏:‏ تقدم الكلام عليه في العنكبوت، إلا أن هنا عليّ، وهناك لتشرك بلام العلة‏.‏ وانتصب ‏{‏معروفاً‏}‏ على أنه صفة لمصدر محذوف، أي صحاباً، أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا‏.‏ ‏{‏واتبع سبيل من أناب إليّ‏}‏‏:‏ أي رجع إلى الله، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما‏.‏ ‏{‏ثم إليّ مرجعكم‏}‏‏:‏ أي مرجعك ومرجعهما، فأجازي كلاً منكم بعمله‏.‏

ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك، نبهه على قدرة الله، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال‏:‏ ‏{‏يا بني إنها إن تك‏}‏، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ مثقال، بالرفع على ‏{‏إن تك‏}‏ تامة، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر، وأخبر عن مثقال، وهو مذكر، إخبار المؤنث، لأضافته إلى مؤنث، وكأنه قال‏:‏ إن تك زنة حبة؛ وباقي السبعة‏:‏ بالنصب على ‏{‏إن تك‏}‏ ناقصة، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره‏:‏ هي، أي التي سألت عنها‏.‏

وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه‏:‏ أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر‏؟‏ أيعلمها الله‏؟‏ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض، ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏إن تك مثقال حبة‏}‏‏.‏ وقرأ عبد الكريم الجزري‏:‏ فتكن، بكسر الكاف وشد النون وفتحها؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي‏:‏ فتكن، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ فتكن، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون، من وكن يكن، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضاً‏:‏ أي تستقر، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية‏.‏ وعلى من قرأ بنصب مثقال، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة، لا ضمير القصة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فمن نصب يعني مثقال، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة، كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي‏.‏

‏{‏يأت بها الله‏}‏، يوم القيامة، فيحاسب عليها‏.‏ ‏{‏إن الله لطيف‏}‏، يتوصل علمه إلى كل خفي‏.‏ ‏{‏خبير‏}‏‏:‏ عالم بكنهه‏.‏ وعن قتادة‏:‏ لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها‏.‏ وبدأ له بما يتعلق به أولاً، وهو كينونة الشيء‏.‏ ‏{‏في صخرة‏}‏‏:‏ وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها، ثم أتبعه بالعالم العلوي، وهو أغرب للسامع، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد، وهو الأرض‏.‏ وعن ابن عباس والسدي، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي تحت الأرضين السبع، يكتب فيها أعمال الفجار‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قيل‏:‏ أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء، وهي على ظهر ملك‏.‏ وقيل‏:‏ هي صخرة في الريح، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده، وإنما معنى الكلام‏:‏ المبالغة والانتهاء في التفهم، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة، وما يكون في السماء والأرض‏.‏ انتهى‏.‏ قيل‏:‏ وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة، ويبعده عن الرائي‏.‏ وبكونه في ظلمة وباحتجابه، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب، وفي السموات إشارة إلى البعد، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يأت بها الله‏}‏ دلالة على العلم والقدرة، كأنه قال‏:‏ يحيط بها علمه وقدرته‏.‏

ولما نهاه أولاً عن الشرك، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات، فبدأ بأشرفها، وهو الصلاة، حيث يتوجه إليه بها، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه، فكثيراً ما يؤذى فاعل ذلك، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف‏.‏ إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به‏.‏

والعزم مصدر، فاحتمل أن يراد به المفعول، أي من معزوم الأمور، واحتمل أن يراد به الفاعل، أي عازم الأمور، كقوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزم الأمر‏}‏ وقال ابن جريج‏:‏ مما عزمه الله وأمر به؛ وقيل‏:‏ من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة‏.‏ والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه‏.‏ وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأموراً بها في سائر الملل‏.‏ والعزم‏:‏ ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه‏.‏ وقال مؤرج‏:‏ العزم‏:‏ الحزم، بلغة هذيل‏.‏ والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين، فليس أحدهما أصلاً للآخر‏.‏

‏{‏ولا تصعر خدك للناس‏}‏‏:‏ أي لا تولهم شق وجهك، كفعل المتكبر، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب، قاله ابن عباس والجماعة‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ نهى أن يذل نفسه من غير حاجة، وأورد قريباً من هذا ابن عطية احتمالاً فقال‏:‏ ويحتمل أن يريد‏:‏ ولا سؤالاً ولا ضراعة بالفقر‏.‏ قال‏:‏ والأول، يعني تأويل ابن عباس والجماعة، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏ولا تصعر‏}‏، أراد به الإعراض، كهجره بسب أخيه‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وزيد بن علي‏:‏ تصعر، بفتح الصاد وشد العين؛ وباقي السبعة‏:‏ بألف؛ والجحدري‏:‏ يصعر مضارع أصعر‏.‏ ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏‏:‏ تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏ تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏‏.‏ ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ صار هو في نفسه ممتثلاً للمعروف مزدجراً عن المنكر، أمر به غيره وناهياً عنه غيره، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحاً، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال، وهو المتكبر، ولا الفخور‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو الذي يعدد ما أعطي، ولا يشكر الله‏.‏ ويدخل في الفخور‏:‏ الفخر بالأنساب‏.‏

‏{‏واقصد في مشيك واغضض من صوتك‏}‏‏:‏ ولما نهاه عن الخلق الذميم، أمره بالخلق الكريم، وهو القصد في المشي، بحيث لا يبطئ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع، ولا يسرع، كما يفعل الخرق المتهور‏.‏ ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال‏:‏ كلكم يمشي رويداً، كلكم يطلب صيداً، غير عمرو بن عبيد‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ اجعل بصرك موضع قدمك‏.‏ وقرئ‏:‏ وأقصد، بهمزة القطع‏:‏ أي سدد في مشيك؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية، ونسبها ابن خالويه للحجاز‏.‏ والغض من الصوت‏:‏ التنقيص من رفعه وجهارته، والغض‏:‏ رد طموح الشيء، كالصوت والنظر والزمام‏.‏

وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به في الجاهلية، ومنه قول الشاعر‏:‏

جهير الكلام جهير العطاس *** جهير الرواء جهير النعيم

ويخطو على الأين خطو الظليم *** ويعلو الرجال بخلق عميم

وغض الصوت أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه‏.‏ وأنكر‏:‏ أفعل، إن بنى من فعل المفعول، كقولهم‏:‏ أشغل من ذات النحيين؛ وبناؤه من ذلك شاذ‏.‏ والأصوات‏:‏ أصوات الحيوان كلها‏.‏ وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة‏.‏ شبه الرافعون أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهاق، ولم يؤت بأداة التشبيه، بل أخرج مخرج الاستعارة، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت‏.‏ ولما كان صوت الحمير متماثلاً في نفسه، لا يكاد يختلف في الفظاعة، أفرد لأنه في الأصل مصدر‏.‏ وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جداً، جمعت في قوله‏:‏ ‏{‏إن أنكر الأصوات‏}‏، فالمعنى‏:‏ أنكر أصوات الحمير، بالجمع بغير لام‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرد عليهم بأنه لو كان خيراً، فضل به الحمير‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏إن أنكر الأصوات لصوت الحمير‏}‏ من كلام لقمان لابنه، تنفير له عن رفع الصوت، ومماثلة الحمير في ذلك‏.‏ قيل‏:‏ هو من كلام الله تعالى، وفرغت وصية لقمان في قوله‏:‏ ‏{‏واغضض من صوتك‏}‏ رداً لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏‏:‏ إشارة الى الأفعال، ‏{‏واغضض من صوتك‏}‏‏:‏ إشارة إلى الأقوال، فنبه على التوسط في الأفعال، وعلى الإقلال من فضول الكلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏سخر لكم‏}‏‏:‏ تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير ‏{‏ما في السموات‏}‏‏:‏ من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب؛ ‏{‏وما في الأرض‏}‏‏:‏ من الحيوان، والنبات، والمعادن، والبحار، وغير ذلك؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء‏.‏ وقرأ ابن عباس، ويحيى بن عمارة‏:‏ وأصبغ بالصاد، وهي لغة لبني كلب، يبدلونها من السين، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صاداً؛ وباقي القراء‏:‏ بالسين على الأصل‏.‏ وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وأبو عمرو، وحفص‏:‏ ‏{‏نعمه‏}‏، جمعاً مضافاً للضمير؛ وباقي السبعة، وزيد بن علي‏:‏ نعمة، على الإفراد‏.‏ والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة‏:‏ الإسلام، والباطنة‏:‏ الستر‏.‏ وعن الضحاك، الظاهرة‏:‏ حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة‏:‏ المعرفة‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهرة‏:‏ البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، والباطنة‏:‏ القلب والعقل والفهم‏.‏ والذي ينبغي أن يقال‏:‏ إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلاً‏.‏ فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها‏؟‏ وانتصب ‏{‏ظاهرة‏}‏ على الحال من ‏{‏نعمه‏}‏، الجمع على الصفة، ومن نعمة على الإفراد‏.‏ وتقدم الكلام على‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏منير‏}‏، في الحج، وعلى ما بعده إلى‏:‏ ‏{‏آباءنا‏}‏، في نظيره في البقرة‏.‏ ‏{‏أوَلو‏}‏‏:‏ كان تقديره‏:‏ أيتبعونهم في أحوالهم‏؟‏ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء‏؟‏ لأنها حال تلف وعذاب‏.‏ وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون، نحو‏:‏ اعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق، ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏ وكذلك هذا، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏

‏{‏ومن يسلم‏}‏، مضارع أسلم؛ وعلي، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار‏:‏ بتشديد اللام، مضارع سلم، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة، والمراد‏:‏ التفويض إلى الله‏.‏ ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏‏:‏ تقدم الكلام عليه في البقرة‏.‏ وقال الزمخشري، من باب التمثيل‏:‏ مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه‏.‏ انتهى‏.‏ ولما ذكر حال الكافر المجادل، ذكر حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والعروة‏:‏ موضع التعليق، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله، فشبه ذلك بالعروة‏.‏ وسلى رسوله بقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏، إلى آخره، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه، ولا الإنفكاك منه‏.‏ والغلظ يكون في الإجرام، فاستعير للمعنى، والمراد‏:‏ الشدة‏.‏ ‏{‏ليقولنّ الله‏}‏‏:‏ أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره، ويدعون مع ذلك إلهاً غيره‏.‏

‏{‏قل الحمد لله‏}‏ على ظهور الحجة عليهم‏.‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏:‏ إضراب عن مقدر، تقديره‏:‏ ليس دعواهم، نحو‏:‏ لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح، ولا يذهب إليه ذو علم‏.‏ ثم أخبر أنه مالك للعالم كله، وأنه هو الغني، فلا افتقار له لشيء من الموجودات‏.‏ ‏{‏الحميد‏}‏‏:‏ المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم‏.‏

‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏‏:‏ تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية‏.‏ ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له، وكان ذلك متناهياً، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض‏}‏، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره، وتقرر ذلك في علم النحو‏.‏ و‏{‏من شجرة‏}‏‏:‏ تبيين لما، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه، وتقديره‏:‏ ولو أن الذي استقر في الأرض كائناً من شجرة وأقلام خبر لأن، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله‏:‏ إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسماً جامداً ولا اسماً مشتقاً، بل يجب أن يكون فعلاً، وهو قول باطل، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولو أنها عصفورة لحسبتها *** مسومة تدعو عبيداً وأيماً

وقال الآخر‏:‏

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر *** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وقال آخر‏:‏

ولو أن حياً فائت الموت فاته *** أخو الحرب فوق القارح القدوان

وهو كثير في لسانهم‏.‏ والظاهر أن الواو في قوله‏:‏ ‏{‏والبحر‏}‏، في قراءة من رفع، وهم الجمهور، واو الحال؛ والبحر مبتدأ، و‏{‏يمده‏}‏ الخبر، أي حال كون البحر ممدوداً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عطفاً على محل إن ومعمولها على ولو، ثبت كون الأشجار أقلاماً، وثبت أن البحر ممدوداً بسبعة أبحر‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد، حيث زعم أن ‏{‏أن‏}‏ في موضع رفع على الفاعلية‏.‏ وقال بعض النحويين‏:‏ هو عطف على أن، لأنها في موضع رفع بالإبتداء، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول‏:‏ إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء، ولولا يليها المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة شعر، نحو قوله‏:‏

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها، وهما رفع بالابتداء، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ، إذ يصير التقدير‏:‏ ولو البحر، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، إلا أنه قد يقال‏:‏ إنه يجوز في المعطوف عليه نحو‏:‏ رب رجل وإخيه يقولان ذلك‏.‏

وقرأ عبد الله‏:‏ وبحر يمده، بالتنكير بالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كانت الواو واو الحال، كان بحر، وهو نكرة، مبتدأ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته، نحو قوله‏:‏

سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا *** محياك أخفى ضوؤه كل شارق

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يمده‏}‏ بالياء، من مد؛ وابن مسعود، وابن عباس‏:‏ بتاء التأنيث، من مد أيضاً؛ وعبد الله أيضاً، والحسن، وابن مطرف، وابن هرمز‏:‏ بالياء من تحت، من أمد؛ وجعفر بن محمد‏:‏ والبحر مداده، أي يكتب به من السواد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هو مصدر‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏من بعده‏}‏‏:‏ أي من بعد نفاد ما فيه، ‏{‏سبعة أبحر‏}‏‏:‏ لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة، كقوله‏:‏ المؤمن من يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء، لا يراد به العدد، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة‏.‏ ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير، وإن كان مراداً به التكثير، جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير، ليناسب بين اللفظين‏.‏ فكما يجوز في سبعة، واستعمل للتكثر، كذلك يجوز في أبحر، واستعمل للتكثير‏.‏ وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وكتب بها الكتاب كلمات الله‏.‏

‏{‏ما نفدت‏}‏، والمعنى‏:‏ ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، ‏{‏ما نفدت‏}‏، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده، كما قال‏:‏ ‏{‏لو كان البحر مداداً لكلمات ربي‏}‏ الآية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ زعمت أن قوله‏:‏ ‏{‏والبحر يمده‏}‏، حال في أحد وجهي الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال، قلت‏:‏ هو كقوله‏:‏

وقد اغتدي والطير في وكناتها *** وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف‏.‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ وبحرها، والضمير للأرض‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي جعله سؤالاً وجواباً من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه، وهو أن الجملة الإسمية إذا كانت حالاً بالواو، لا يحتاج إلى ضمير يربط، واكتفى بالواو فيها‏.‏ وأما قوله‏:‏ وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فليس بجيد، لأن الظرف إذا وقع حالاً، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف‏.‏ والجملة الاسمية إذا كانت حالاً بالواو، فليس فيها ضمير منتقل‏.‏ وأما قوله‏:‏ ويجوز، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين، حيث يجعلون أل عوضاً من الضمير‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم قيل‏:‏ ‏{‏من شجرة‏}‏، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر‏؟‏ قلت‏:‏ أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاماً‏.‏

انتهى‏.‏ وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، ونظيره‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية‏}‏ ‏{‏ما يفتح الله للناس من رحمة‏}‏ ‏{‏ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة‏}‏ وكقول العرب‏:‏ هو أول فارس، وهذا أفضل عالم، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب، وأول الفرسان‏.‏ أخبروا بالمفرد والنكرة، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل، وهو مهيع في كلام العرب معروف‏.‏ وكذلك يتقدر هذا من الشجرات، أو من الأشجار‏.‏ وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به، ولا يحيط إلا الله تعالى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ما نفدت كلمات الله‏}‏، بالألف والتاء‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ كلمة الله، على التوحيد‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ما نفد، بغير تاء، كلام الله‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المراد بالكلمات، والله أعلم‏:‏ ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد بكلمات الله‏:‏ معلوماته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ الكلمات جمع قلة، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل‏:‏ كلم الله‏؟‏ قلت‏:‏ معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار، فكيف بكلمة‏؟‏ انتهى‏.‏ وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمت وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد‏.‏ ‏{‏إن الله عزيز‏}‏‏:‏ كامل القدرة، فمقدوراته لا نهاية لها‏.‏ ‏{‏حكيم‏}‏‏:‏ كامل العلم، فمعلوماته لا نهاية لها‏.‏ ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر‏.‏ ‏{‏إلا كنفس واحدة‏}‏‏:‏ إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي‏:‏ كونوا فيكونون، فالقليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت في قدرته‏.‏ وقال النقاش‏:‏ هذه الآية في أبيّ بن خلف، وأبي الأسد، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، قالوا‏:‏ يا محمد‏:‏ إنا نرى الطفل يخلق بتدريج، وأنت تقول‏:‏ الله يعيدنا دفعة واحدة، فنزلت‏.‏ ‏{‏إن الله سميع بصير‏}‏‏:‏ سميع كل صوت، بصير كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق والبعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 34‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏يولج الليل‏}‏‏:‏ الجملتين شرحت في آل عمران وهنا‏.‏ ‏{‏إلى أجل‏}‏، ويدل على الأنتهاء، أي‏:‏ يبلغه وينتهي إليه‏.‏ وفي الزمر‏:‏ ‏{‏لأجل‏}‏ ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى، وجري الشمس مختص بآخر السنة، وجري القمر بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما، فلذلك عدى بهما‏.‏ وقرأ عياش، عن أبي عمرو‏:‏ بما يعملون، بياء الغيبة‏.‏ ‏{‏ذلك بأن الله‏}‏ الآية، تقدم شرحها في الحج وهنا‏.‏ ‏{‏وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏، وفي الحج ‏{‏من دونه هو الباطل‏}‏ بزيادة هو‏.‏ ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وإمتنانه بذلك علينا، ذكر أيضاً من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بنعمة الله‏}‏ على الإفراد اللفظي‏.‏ وقرأ الأعرج، والأعمش، وابن يعمر‏:‏ بنعمات الله، بكسر النون وسكون العين جمعاً بالألف والتاء‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء، وتحتمل السببية‏:‏ أي تجري بسبب الريح وتسخير الله، وتحتمل الحالية، أي مصحوبة بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الباء للالصاق‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ موسى بن الزبير‏:‏ ‏{‏الفلك‏}‏، بضم اللام‏.‏ و‏{‏صبار شكور‏}‏‏:‏ بنيتا مبالغة، وفعال أبلغ لزيادة حروفه‏.‏

ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف، وتقدم ذكر النعمة، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر، وبالشكر على ما أنعم به تعالى، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل، وهو السحاب‏.‏ وقيل‏:‏ كالظلل‏:‏ كالجبال، أطلق على الجبل ظلة‏.‏ وقرأ محمد بن الحنفية‏:‏ كالظلال، وهما جمع ظلة، نحو‏:‏ قلة وقلل وقلال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم‏}‏، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في ‏{‏ليريكم‏}‏ إلى ضمير الغيبة في ‏{‏غشيهم‏}‏‏.‏ و‏{‏موج‏}‏‏:‏ اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث، فهو يدل على الجمع، ولذلك شبهه بالجمع‏.‏

‏{‏فمنهم مقتصد‏}‏، قال الحسن‏:‏ أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مقتصد على كفره‏:‏ أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها‏.‏ قيل‏:‏ أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط‏.‏ انتهى‏.‏ وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفاً، والعامل فيه غير ماضٍ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك‏.‏ فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره‏:‏ ومنهم جاحد ودل عليه، قوله‏:‏ ‏{‏وما يجحد بآياتنا‏}‏‏.‏ وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه‏:‏ مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موف بما عاهد الله عليه في البحر، وختم هنا ببنيتي مبالغة، وهما‏:‏ ‏{‏ختار‏}‏، و‏{‏كفور‏}‏‏.‏ فالصبار الشكور معترف بآيات الله، والختار الكفور يجحد بها‏.‏

وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً‏.‏ أما لفظاً فظاهر، وأما معنىً فالختار هو الغدار، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبارّ يفوّض أمره إلى الله، وأما الغدار فيعهد ويغدر، فلا يصبر على العهد‏:‏ وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة‏.‏ ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم‏.‏

‏{‏لا يجزي‏}‏‏:‏ لا يقضي، ومنه قيل للمتقاضي‏:‏ المتجازي، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة‏.‏ ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه، بدأ به أولاً، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل، لأنه يدل على الثبوت، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة‏.‏ والجملة من لا يجزي صفة ليوم، والضمير محذوف، أي منه، فإما أن يحذف برمته، وإما على التدريج حذف الخبر، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لا يجزي مضارع جزى؛ وعكرمة‏:‏ بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول؛ وأبو السماك، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار‏:‏ لا يجزئ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزاً، ومعناه‏:‏ لا يغني؛ يقال‏:‏ أجزأت عنك جزاء فلان‏:‏ أي أغنيت‏.‏ ويجوز في ‏{‏ولا مولود‏}‏ وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون معطوفاً على والد، والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏هو جاز‏}‏، صفة لمولود‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون مبتدأ، وهو مبتدأ ثان، وجاز خبره، والجملة خبر للأول، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك، وهو النفي‏.‏ وذهل المهدوي فقال‏:‏ لا يكون ‏{‏مولود‏}‏ مبتدأ، لأنه نكرة وما بعده صفة، فيبقى بلا خبر و‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب بجاز، وهو من باب الأعمال، لأنه يطلبه ‏{‏لا يجزي‏}‏ ويطلبه ‏{‏جاز‏}‏، فجعلناه من أعمال الثاني، لأنه المختار‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب‏:‏ نغرنكم، بالنون الخفيفة‏.‏ وقرأ سماك بن حرب، وأبو حيوة‏:‏ الغرور بالضم، وهو مصدر؛ والجمهور‏:‏ بالفتح، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً‏}‏ هو وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه‏.‏ قلت‏:‏ الأمر كذلك، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مولود‏}‏، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد‏.‏ ومعنى التوكيد في لفظ المولود‏:‏ أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأن الولد يقع على الولد، وولد الولد بخلاف المولود، فإنه لمن ولد منك‏.‏

‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏‏:‏ يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال‏:‏ يا رسول الله، أخبرني عن الساعة متى قيامها‏؟‏ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض، وقد أبطأت عني السماء، متى تمطر‏؟‏ وأخبرني عن امرأتي، فقد اشتملت على ما في بطنها، أذكر أم أنثى‏؟‏ وعلمت ما علمت أمس، فما أعمل غداً‏؟‏ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت‏؟‏ فنزلت‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «خمس لا يعلمهنّ إلا الله»، وتلا هذه الآية‏.‏ وعلم‏:‏ مصدر أضيف إلى الساعة، والمعنى‏:‏ علم يقين، وفيها‏:‏ ‏{‏وينزل الغيث‏}‏ في آياته من غير تقديم ولا تأخير‏.‏ ‏{‏ما في الأرحام‏}‏ من ذكر أم أنثى، تام أو ناقص، ‏{‏وما تدري نفس‏}‏، برة أو فاجرة‏.‏ ‏{‏ماذا تكسب غداً‏}‏ من خير أو شر، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده‏.‏ ‏{‏بأي أرض تموت‏}‏‏:‏ وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط‏.‏ وأسند العلم إلى الله، والدراية للنفس، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة؛ ولذا وصف الله بالعالم، ولا يوصف بالداري‏.‏ وأما قوله‏:‏

لاهم لا أدري وأنت الداري *** فقول عربي جلف جاهلي، جاهل بما يطلق على الله من الصفات، وما يجوز منها وما يمتنع‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بأي أرض‏}‏‏.‏ وقرأ موسى الأسواري، وابن أبي عبلة‏:‏ بأية أرض، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت، وهي لغة قليلة فيهما‏.‏ كما أن كلاًّ إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث، تقول‏:‏ كلهنّ فعلن ذلك، وتدري معلقة في الموضعين‏.‏ فالجملة من قوله‏:‏ ‏{‏ماذا تكسب‏}‏ في موضع مفعول ‏{‏تدري‏}‏، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري، كأنه قال‏:‏ وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً‏.‏ وبأي متعلق بتموت، والباء ظرفية، أي‏:‏ في أي أرض‏؟‏ فالجملة في موضع نصب بتدري‏.‏ ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس، لأنها جواب لسائل سأل، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو، وهذه الخمس‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية، قيل‏:‏ إلا خمس آيات‏:‏ ‏{‏تتجافى‏}‏ إلى ‏{‏تكذبون‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس، ومقاتل، والكلبي‏:‏ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً‏}‏‏.‏ قال كفار قريش‏:‏ لم يبعث الله محمداً إلينا، وإنما الذي جاء به اختلاق منه، فنزلت‏.‏ ولما ذكر تعالى، فيما قبلها، دلائل التوحيد من بدء الخلق، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن‏.‏ قال الحوفي‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ مبتدأ، ‏{‏ولا ريب‏}‏ خبره‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏تنزيل‏}‏ خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و‏{‏الم‏}‏ بدل على الحروف‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ مبتدأ، و‏{‏تنزيل‏}‏ خبره بمعنى المنزل، و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل، و‏{‏من رب العالمين‏}‏ متعلق بتنزيل أيضاً‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏تنزيل‏}‏ مبتدأ، و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ الخبر، و‏{‏من رب العالمين‏}‏ حال كما تقدم‏.‏ ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه‏.‏ ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏من رب العالمين‏}‏، و‏{‏لا ريب‏}‏ حال من الكتاب، وأن يكون خبراً بعد خبر‏.‏ انتهى‏.‏ والذي أختاره أن يكون ‏{‏تنزيل‏}‏ مبتدأ، و‏{‏لا ريب‏}‏ اعتراض، و‏{‏من رب العالمين‏}‏ الخبر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏من رب العالمين‏}‏ متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى‏.‏ والريب‏:‏ الشك، وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله‏:‏ ‏{‏ريب المنون‏}‏ انتهى‏.‏

وإذا كان ‏{‏تنزيل‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه‏:‏ إن فيه تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً‏.‏ وأما كونه متعلقاً بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود، لأن المعنى‏:‏ لا مدخل للريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏، كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله، فقال ذلك حسداً، أو حكماً من الله عليه بالضلال‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل‏:‏ لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلاً من رب العالمين‏.‏ ويشهد لوجاهته قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏بل هو الحق من ربك‏}‏، وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه‏.‏

ثم أضرب عن ذلك إلى قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك‏.‏ انتهى، وهو كلام فيه تكثير‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أم يكون معناه‏:‏ بل يقولون، فهو خروج من حديث إلى حديث؛ ومن ربك في موضع الحال، أي كائناً من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره‏:‏ أنزله لتنذر‏.‏ والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير‏:‏ من زائدة، ونذير فاعل أتاهم‏.‏

أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم، وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ أي شريعته ودينه؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر، بل يكون نذيراً لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس، ومقاتل‏:‏ المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد، عليهما السلام‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏ما أنذر آباؤهم‏}‏ وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإن قلت‏:‏ فإذا لم يأتهم نذير، لم تقم عليهم حجة‏.‏ قلت‏:‏ أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان‏.‏ انتهى‏.‏ والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون، وذلك أنهم فهموا من قوله‏:‏ ‏{‏ما أتاهم‏}‏، و‏{‏ما أنذر آباؤهم‏}‏ أن ما نافية، وعندي أن ما موصولة، والمعنى‏:‏ لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم‏.‏ ‏{‏من نذير‏}‏‏:‏ متعلق بأتاهم، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك‏.‏ وكذلك ‏{‏لتنذر قوماً ما أنذر أباؤهم‏}‏ أي العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يتعدى إلى اثنين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة‏}‏ وهذا القول جار على ظواهر القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ و‏{‏أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير‏}‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏{‏وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً‏}‏ ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون‏:‏ إن محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه ورد عليهم، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم، ولأنه إذا ذكر الإنذار، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته‏.‏

و ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏‏:‏ ترجية من رسول الله، كما كان في قوله‏:‏ ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ من موسى وهارون‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي، ومعناه‏:‏ إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعتزالية، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد، فلا يقع ما يريد، ويقع ما يريد العبد، تعالى الله عن ذلك‏.‏ ولما بين تعالى أمر الرسالة، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم‏.‏ وتقدم الكلام على ‏{‏في ستة أيام‏}‏ في الأعراف‏.‏ ‏{‏ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع‏}‏‏:‏ أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً‏.‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ موجد هذا العالم، فتعبدوه وترفضوا ما سواه‏؟‏

‏{‏يدبر الأمر‏}‏، الأمر‏:‏ واحد الأمور‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والضحاك‏:‏ ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه‏.‏ ‏{‏ثم يعرج إليه‏}‏‏:‏ أي يصعد، خبر ذلك ‏{‏في يوم‏}‏ من أيام الدنيا، ‏{‏مقداره‏}‏‏:‏ أن لو سير فيه السير المعروف من البشر ‏{‏ألف سنة‏}‏، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا، وهو اليوم عنده، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخراً، لأن عاقبة الأمور إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فينزل القضاء والقدر، ثم تعرج إليه يوم القيامة، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم، حيث ينقطع أمر الأمراء، أو أحكام الحكام، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏‏.‏

انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة‏.‏ والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد إلى السماء، لأنها تذكر؛ وقيل‏:‏ إلى الله‏.‏ وقال عبد الله بن سابط‏:‏ يدبر أمر الدنيا أربعة‏:‏ جبريل للرياح والجنود، وميكائيل للقطر والماء، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السموات موضع التعريف‏.‏ وقال السدي‏:‏ الأمر‏:‏ الوحي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ القضاء‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ أمر الدنيا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تقول عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏يعرج‏}‏ مبنياً للمفعول؛ والجمهور‏:‏ مبنياً للفاعل‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وفي هذا لطيفة، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏، والروح من عالم الأمر، كما قال‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏ وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان‏.‏ والمراد دوام النفاد، كما يقال في العرف‏:‏ طال زمان فلان، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة‏.‏ فأشار إلى عظمة الملك بالمكان، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه، والزمان بحكمه وأمره‏.‏ انتهى‏.‏ وهو كلام ليس جارياً على فهم العرب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مما تعدون‏}‏، بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش، والحسن‏:‏ بياء الغيبة، بخلاف عن الحسن‏.‏ وقرأ جناح بن حبيش‏:‏ ثم تعرج الملائكة، بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير، ‏{‏عالم الغيب‏}‏‏:‏ والغيب الآخرة، ‏{‏والشهادة‏}‏‏:‏ الدنيا، أو الغيب‏:‏ ما غاب عن المخلوقين، والشهادة‏:‏ ما شوهد من الأشياء، قولان‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم‏}‏‏:‏ بخفض الأوصاف الثلاثة؛ وأبو زيد النحوي‏:‏ بخفض ‏{‏العزيز الرحيم‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والاثنان وصفان، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أي ثم يعرج إليه ذلك، أي الأمر المدبر، ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه‏.‏ وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ خلقه، بفتح اللام، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء‏.‏ وقرأ العربيان، وابن كثير‏:‏ بسكون اللام، والظاهر أنه بدل اشتمال، والمبدل منه كل، أي أحسن خلق كل شيء، فالضمير في خلقه عائد على كل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في خلقه عائد على الله، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة، كقوله‏:‏ ‏{‏صبغة الله‏}‏ وهو قول سيبويه، أي خلقه خلقاً‏.‏

ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول، وبأنه أبلغ في الامتنان، لأنه إذا قال‏:‏ ‏{‏أحسن كل شيء‏}‏، كأن أبلغ من‏:‏ أحسن خلق كل شيء، لأنه قد يحسن الخلق، وهو المجاز له، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏أحسن كل شيء‏}‏، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن، بمعنى‏:‏ أنه وضع كل شيء في موضعه‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ في هذا الوجه، وهو عود الضمير في خلقه على الله، يكون بدلاً من كل شيء، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة‏.‏ ومعنى ‏{‏أحسن‏}‏‏:‏ حسن، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة‏.‏ فالمخلوقات كلها حسنة، وإن تفاوتت في الحسن، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها‏.‏ ولهذا قال ابن عباس‏:‏ ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة‏.‏ وعلى قراءة من سكن لام خلقه، قال مجاهد‏:‏ أعطى كل جنس شكله، والمعنى‏:‏ خلق كل شيء على شكله الذي خصه به‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه، كأنه أعلمهم ذلك، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏أعطى كل شيء خلقه‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بدأ بالهمز؛ والزهري‏:‏ بالألف بدلاً من الهمزة، وليس بقياس أن يقول في هدأ‏:‏ هدا، بإبدال الهمزة ألفاً، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين؛ على أن الأخفش حكى في قرأت‏:‏ قريت ونظائره‏.‏ وقيل‏:‏ وهي لغية؛ والأنصار تقول في بدأ‏:‏ بدى، بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي‏.‏ يقولون في فعل هذا نحو بقى‏:‏ بقأ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى، ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار‏.‏ وقال ابن رواحة‏:‏

باسم الإله وبه بدينا *** ولو عبدنا غيره شقينا

‏{‏وبدأ خلق الإنسان‏}‏‏:‏ هو آدم، عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏ثم جعل نسله‏}‏‏:‏ أي ذريته‏.‏ نسل من الشيء‏:‏ انفصل منه‏.‏ ‏{‏ثم سواه‏}‏‏:‏ قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب، لا يعلم حقيقته إلا هو، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى‏.‏ ‏{‏وجعل لكم‏}‏‏:‏ التفات، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب، وتعديد للنعم، وهي شاملة لآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته‏.‏ والظاهر أن ‏{‏وقالوا‏}‏، الضمير لجمع، وقيل‏:‏ القائل أبيّ بن خلف، وأسند إلى الجمع لرضاهم به، والناصب للظرف محذوف يدل عليه ‏{‏أئنا‏}‏ وما بعدها تقديره انبعث‏.‏ ‏{‏أئذا ضللنا‏}‏، ومن قرأ إذا بغير استفهام، فجواب إذا محذوف، أي‏:‏ إذا ضللنا في الأرض نبعث، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء‏.‏ وكذلك من قرأ‏:‏ إنا على الخبر، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغة الشهيرة الفصحية، وهي لغة نجد‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هلكنا، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك، وأصله من‏:‏ ضل الماء في اللبن، إذا ذهب‏.‏

وقال قطرب‏:‏ ضللنا‏:‏ غبنا في الأرض، وأنشد قول النابغة الذبياني‏:‏

فآب مضلوه بعين جلية *** وغودر بالجولان حزم ونائل

وقرأ يحيى بن يعمر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وطلحة، وابن وثاب‏:‏ بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أبي العالية‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ ضللنا، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي‏.‏ وقرأ علي، وابن عباس، والحسن، والأعمش، وأبان ين سعيد بن العاص‏:‏ صللنا، بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه‏:‏ أنتنا‏.‏ وعن الحسن‏:‏ صللنا، بكسر اللام، يقال‏:‏ صل يصل، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع؛ وصل يصل‏:‏ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع؛ وأصل يصل، بالهمزة على وزن أفعل‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تلجلج مضغة فيها أبيض *** أصلت فهي تحت الكشح داء

وقال الفراء‏:‏ معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة‏.‏ وقال النحاس‏:‏ لا نعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال‏:‏ أصل اللحم وصل، وأخم وخم إذ أنتن، وحكاه غيره‏.‏ ‏{‏بل هم بلقاء ربهم كافرون‏}‏‏:‏ جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه‏.‏ ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة، من قبض أرواحهم، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث‏.‏ و‏{‏ملك الموت‏}‏‏:‏ اسمه عزرائيل، ومعناه عبد الله‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ترجعون‏}‏، مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي‏:‏ مبنياً للفاعل‏.‏

‏{‏ولو ترى‏}‏‏:‏ الظاهر أنه خطاب للرسول، وقيل‏:‏ له ولأمته، أي‏:‏ يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب‏.‏ وقال أبو العباس‏:‏ المعنى يا محمد قل للمجرم‏.‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏‏:‏ رأى أن الجملة معطوفة على ‏{‏يتوفاكم‏}‏، داخلة تحت ‏{‏قل‏}‏، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول‏.‏ والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، والجواب محذوف، أي لرأيت أسوأ حال يرى‏.‏ ولو تعليق في الماضي، وإذ ظرف للماضي، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله، وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يراد به التمني، كأن قيل‏:‏ وليتك ترى، والتمني له، كما كان الترجي له في‏:‏ ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو امتناعية، وقد حذف جوابها، وهو‏:‏ لرأيت أمراً فظيعاً‏.‏ ويجوز أن يخاطب به كل أحد، كما تقول‏:‏ فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا يريد به مخاطباً بعينه، وكأنك قلت‏:‏ إن أكرم وإن أحسن إليه‏.‏ انتهى‏.‏ والتمني بلو في هذا الموضع بعيد، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي عبارة سيبويه، وقوله قد حذف جوابها وتقديره‏:‏ وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فلو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر بالذنائب أي زير

بيوم الشعشمين لقر عينا *** وكيف لقاء من تحت القبور

وقال الزمخشري‏:‏ وقد تجيء لو في معنى التمني، كقولك‏:‏ لو تأتيني فتحدثني، كما تقول‏:‏ ليتك تأتيني فتحدثني‏.‏ فقال ابن مالك‏:‏ إن أراد به الحذف، أي وددت لو تأتيني فصحيح، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح، لأنها لو كانت موضوعة له، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني‏.‏ لا يقال‏:‏ تمنيت ليتك تفعل، ويجوز‏:‏ تمنيت لو تقوم‏.‏ وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي، وبين إلا واستثنى‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏ناكسوا رؤوسهم‏}‏‏:‏ مطرقوها، من الذل والحزن والهم والغم والذم‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ نكسوا رؤوسهم، فعلاً ماضياً ومفعولاً؛ والجمهور‏:‏ اسم فاعل مضاف‏.‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏‏:‏ أي عند مجازاته، وهو مكان شدة الخجل، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل‏.‏ ‏{‏ربنا‏}‏‏:‏ على إضمار يقولون، وقدره الزمخشري‏:‏ يستغيثون بقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا أبصرنا‏}‏ ما كنا نكذب؛ ‏{‏وسمعنا‏}‏‏:‏ ما كنا ننكر؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك، وسمعنا تصديق رسلك، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا، فارجعنا إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏إنا موقنون‏}‏‏:‏ أي بالبعث‏.‏ قاله النقاش؛ وقيل‏:‏ مصدقون بالذي قال الرسول، قاله يحيى بن سلام‏.‏ وموقنون‏:‏ مشعر بالالتباس في الحال، أي حين أبصروا وسمعوا‏.‏ وقيل‏:‏ موقنون‏:‏ زالت الآن عنا الشكوك، ولم نكن في الدنيا نتدبر، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع‏.‏ وقيل‏:‏ لك الحجة، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا، وهذا اعتراف منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لآتينا كل نفس هداها‏}‏‏:‏ أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله‏:‏ ‏{‏أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏}‏ و‏{‏لجمعهم على الهدى‏}‏ و‏{‏لجعل الناس أمة واحدة‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر‏.‏ ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا بما نسيتم‏}‏‏؟‏ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها‏.‏ والمراد بالنسيان‏:‏ خلاف التذكر، يعني‏:‏ أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إنا نسيناكم‏}‏ على المقابلة‏:‏ أي جازيناكم جزاء نسيانكم‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة‏.‏ وقالت الإمامية‏:‏ يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحداً، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها‏.‏ قالوا‏:‏ بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏هذا‏}‏‏:‏ صفة ليومكم، ومفعول ‏{‏فذوقوا‏}‏ محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم ‏{‏لقاء يومكم هذا‏}‏، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم‏.‏ وفي استئناف قوله‏:‏ ‏{‏إنا نسيناكم‏}‏، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم‏.‏

‏{‏وإنما يؤمن بآياتنا‏}‏‏:‏ أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ السجود هنا بمعنى الركوع‏.‏ وروي عن ابن جريج‏:‏ المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع، واستدل بقوله‏:‏ ‏{‏وخرّ راكعاً وأناب‏}‏ ‏{‏تتجافى جنوبهم‏}‏‏:‏ أي ترتفع وتتنحى، يقال‏:‏ جفا الرجل الموضع‏:‏ تركه‏.‏ قال عبد الله بن رواحة‏:‏

نبي تجافى جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وقال الزجاج والرماني‏:‏ التجافي‏:‏ التنحي إلى جهة فوق‏.‏ والمضاجع‏:‏ أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم‏.‏ وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول‏.‏ وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك‏:‏ تجافي الجنب‏:‏ هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو التهجد؛ وقال أيضاً‏:‏ هو وعطاء‏:‏ هو العتمة‏.‏ وفي الترمذي، عن أنس‏:‏ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة‏.‏ وقال قتادة، وعكرمة‏:‏ التنفل ما بين المغرب والعشاء، ‏{‏يدعون‏}‏‏:‏ حال، أو مستأنف خوفاً وطمعاً، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال‏.‏ والظاهر أن الدعاء هو‏:‏ الابتهال إلى الله، وقيل‏:‏ الصلاة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ما أخفي لهم‏}‏، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب‏:‏ بسكون الياء، فعلاً مضارعاً للمتكلم؛ وابن مسعود‏:‏ وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضاً‏:‏ أخفيت‏.‏ وقرأ محمد بن كعب‏:‏ ما أخفي، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من قرة‏}‏، على الإفراد‏.‏ وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي‏:‏ من قرات، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و‏{‏ما أخفي‏}‏ يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون ‏{‏تعلم‏}‏ متعلقة‏.‏ والجملة في موضع المفعول، إن كان ‏{‏تعلم‏}‏ مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في ‏{‏قرة عين‏}‏ في الفرقان‏.‏ وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏» وقال ابن مسعود‏:‏ في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره‏.‏ ‏{‏ولا تعلم نفس‏}‏‏:‏ نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت‏.‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فحسم أطماع المتمنين‏.‏ انتهى، وهذه نزغة اعتزالية‏.‏

‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً‏}‏، قال ابن عباس وعطاء‏:‏ نزلت في علي والوليد بن عقبة‏.‏ تلاحياً، فقال له الوليد‏:‏ أنا أذلق منك لساناً، وأحدّ سناناً، وأرد للكتيبة‏.‏ فقال له علي‏:‏ اسكت، فإنك فاسق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما‏.‏ وقال الزجاج، والنحاس‏:‏ نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط‏.‏ فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر‏.‏ والجمع في ‏{‏لا يستوون‏}‏، والتقسيم بعده، حمل على معنى من‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لا يستوون‏}‏ لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد‏.‏ والجمهور‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ بالجمع‏.‏ وقيل‏:‏ سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال‏:‏ يأوي إليها أرواح الشهداء‏.‏

وقيل‏:‏ هي عن يمين العرش‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ بضم الزاي؛ وأبو حيوة‏:‏ بإسكانها‏.‏ والنزل‏:‏ عطاء النازل، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف‏.‏ ‏{‏وأما الذين فسقوا‏}‏‏:‏ أي بالكفر، ‏{‏فمأواهم النار‏}‏‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد‏:‏ فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ انتهى وهذا فيه بعد‏.‏ وإنما يذهب إلى مثل ‏{‏فبشرهم‏}‏ إذا كان مصرحاً به فيقول‏:‏ قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع‏.‏ أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد‏.‏

و ‏{‏العذاب الأدنى‏}‏، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد‏:‏ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال‏.‏ وقال ابن مسعود، والحسن بن علي‏:‏ هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ القتل والجوع لقريش، وعنه‏:‏ إنه عذاب القبر‏.‏ وقال النخعي، ومقاتل‏:‏ هو السنون التي أجاعهم الله فيها‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هو الحدود‏.‏ وقال أبيّ أيضاً‏:‏ هو البطشة واللزام والدخان‏.‏ و‏{‏العذاب الأكبر‏}‏، قال ابن عطية‏:‏ لا خلاف أنه عذاب الآخرة‏.‏ وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار‏.‏ وقيل‏:‏ هو القتل والسبي والأسر‏.‏ وعن جعفر بن محمد‏:‏ أنه خروج المهدي بالسيف‏.‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏، قال ابن مسعود‏:‏ لعل من بقي منهم يتوب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ لعلهم يتوبون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يرجعون عن الكفر إلى الإيمان‏.‏ وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله‏:‏ ‏{‏فارجعنا نعمل صالحاً‏}‏‏.‏ وسميت إرادة الرجوع رجوعاً، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا‏}‏ انتهى‏.‏ ويقابل الأدنى‏:‏ الأبعد، والأكبر‏:‏ الأصغر‏.‏ لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل‏.‏ والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة‏؟‏ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر‏؟‏ قلت‏:‏ إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالاً على عجزك‏.‏

انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد ردّ عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام‏.‏ ‏{‏ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها‏}‏، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجداً‏.‏ ‏{‏ثم أعرض عنها‏}‏، قال الزمخشري‏:‏ ثم للاستبعاد، والمعنى‏:‏ أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك‏:‏ وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيت الشاعر‏:‏

ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة *** يرى غمرات الموت ثم يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏من المجرمين‏}‏‏:‏ عام في كل من أجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا‏:‏ هو‏:‏ الكفر‏.‏ وقال يزيد بن رفيع‏:‏ هي في أهل القدر، وقرأ‏:‏ ‏{‏إن المجرمين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بقدر‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «ثلاث من كن فيه فقد أجرم‏:‏ من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالماً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 30‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

لما قرر الأصول الثلاثة‏:‏ الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة التي ليست بدعاً في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل‏.‏ وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاماً لمن كان على دينه؛ ولم يذكر عيسى، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ في مرية، بضم الميم، والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافاً إليه على طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبي الذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال‏:‏ «آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء»، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف‏.‏ وقال المبرد‏:‏ حين امتحن الزجاج بهذه المسألة‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الكتاب، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي‏:‏ إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله‏:‏ ‏{‏وإنك لتُلَقّى القرآن‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال‏:‏ ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس‏.‏ انتهى، وهذا قول بعيد‏.‏ وأبعد من هذا، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره، والجملة اعتراضية‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الرجوع إلى الآخرة، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏‏.‏

‏{‏فلا تكن في مرية لقائه‏}‏‏:‏ أي من لقاء البعث، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها، ولكن نقلها المفسرون، فاتبعناهم‏.‏ والضمير في ‏{‏وجعلناه‏}‏ لموسى، وهو قول قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ للكتاب، جعله هادياً من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل‏.‏ ‏{‏وجعلنا منهم‏}‏‏:‏ أي من بني إسرائيل، ‏{‏أئمة‏}‏‏:‏ قادة يقتدى بهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لما صبروا‏}‏، بفتح اللام وشد الميم‏.‏ وعبدالله وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس‏:‏ بكسر اللام وتخفيف الميم‏.‏ ‏{‏وكانوا‏}‏‏:‏ يحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏صبروا‏}‏، فيكون داخلاً في التعليق‏.‏ ويحتمل أن يكون عطفاً على ‏{‏وجعلنا منهم‏}‏‏.‏ وقرأ عبدالله أيضاً‏:‏ بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل‏.‏ والفصل‏:‏ يوم القيامة يعم الخلق كلهم‏.‏

‏{‏أو لم يهد لهم‏}‏‏:‏ تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه، إلا أن هنا‏:‏ ‏{‏من قبلِهم‏}‏ و‏{‏يسمعون‏}‏، وهناك‏:‏ ‏{‏قبلَهم‏}‏، و‏{‏لأولي النهى‏}‏ ويسمعون، والنهي من الفواصل‏.‏

‏{‏أو لم يروا أنا نسوق الماء‏}‏‏:‏ أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث، وتقدّم تفسير ‏{‏الجزر‏}‏ في الكهف، وكل أرض جزر داخلة في هذا، فلا تخصيص لها بمكان معين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر‏.‏ وقرئ‏:‏ الجرز، بسكون الراء‏.‏ ‏{‏فنخرج به‏}‏‏:‏ أي بالماء، وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفاً للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات‏.‏ وقدمت الأنعام، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب‏.‏ ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية‏:‏ يأكل، بالياء من أسفل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يبصرون‏}‏، بياء الغيبة؛ وابن مسعود‏:‏ بتاء الخطاب‏.‏ وجاءت الفاصلة‏:‏ ‏{‏أفلا يبصرون‏}‏، لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب‏:‏ ‏{‏أفلا يسمعون‏}‏‏.‏ ثم أخبر تعالى عن الكفرة، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب‏.‏ و‏{‏الفتح‏}‏‏:‏ الحكم، قاله الجمهور، وهو الذي يترتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏قل يوم الفتح‏}‏ الخ، ويضعف قول الحسن ومجاهد‏:‏ فتح مكة، لعدم مطابقته لما بعده، لأن من آمن يوم فتح مكة، إيمانه ينفعه، وكذا قول من قال‏:‏ يوم بدر‏.‏ ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏‏:‏ أي لا يؤخرون عن العذاب‏.‏ ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء، وقيل لهم‏:‏ لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في حلول العذاب، فلم تنظروا، فيوم منصوب بلا ينفع‏.‏ ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم‏.‏ ‏{‏إنهم منتظرون‏}‏ للغلبة عليكم لقوله‏:‏ ‏{‏فتربصوا إنا معكم متربصون‏}‏ وقيل‏:‏ إنهم منتظرون العذاب، أي هذا حكمهم، وإن كانوا لا يشعرون‏.‏ وقرأ اليماني‏:‏ منتظرون، بفتح الظاء، اسم مفعول؛ والجمهور‏:‏ بكسرها، اسم فاعل، أي منتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني‏:‏ إنهم هالكون لا محالة، أو‏:‏ وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه‏.‏